فصل: خلافة المقتدر باللّه أبي الفضل جعفر بن المعتضد باللّه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.خلافة المقتدر باللّه أبي الفضل جعفر بن المعتضد باللّه:

وأمه أم ولد يقال لها شعب، وهو ثامن عشرهم، بويع بالخلافة في اليوم الذي مات فيه المكتفي، وكان عمر المقتدر يوم بويع ثلاث عشرة سنة.
موت الترمذي وفيها في المحرم توفي أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي، الفقيه الشافعي المحدث، روى عن يحيى بن بدير المصري، ويوسف بن عدي، وكثيرين يحيى وغيرهم، وروى عنه أحمد بن كامل الشافعي وغيره، وكان مولد الترمذي المذكور، سنة مائتين، وقيل ست عشرة ومائتين:
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين:
خلع المقتدر ومبايعة ابن المعتز:
في هذه السنة خلع القواد والقضاة المقتدر، وبايعوا عبد الله بن المعتز، ولقبوه الراضي بالله، وجرت بين غلمان الدار المريدين للمقتدر، وبين المريدين لابن المعتز، حروب، وآخر ذلك أن عبد الله بن المعتز انهزم واختفى وتفرق أصحابه، ثم أمسك عبد الله بن المعتز، وحبس ليلتين، وقتل خنقاً، وأظهروا أنه مات حتف أنفه، وأخرجوه إلى أهله، وكان مولد عبد الله بن المعتز لسبع بقين من شعبان، سنة سبع وأربعين ومائتين، وكان فاضلا شاعراً، وتشبيهاته وأشعاره مشهورة، وأخذ العلم عن المبرد، وثعلب، وتولى الخلافة يوماً واحداً، وقال حين تولى: قد آن للحق أن يتضح، وللباطل أن يفتضح، له الكلام البديع فمن ذلك قوله: أنفاس الحمى خطاه إلى أجله، ربما أورد الطمع ولم يصدر، يشفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك. وكان عبد الله بن المعتز آمناً في سربه، منعكفاً على طلب العلم والشعر، قد اشتهر عند الخلفاء أنه لم يؤهل نفسه للخلافة، فكان مستريحاً، إلى أن حمله على تولي الخلافة القوم الذين خذلوه بعد بيعته، وقد رثاه علي بن محمد بن بسام فقال:
لله درك من ملك بمضيعة ** ناهيك في العلم والآداب والحسب

ما فيه لولا ولا ليت قتنقصه ** وإنما أدركته حرفة الأدب

وقد روى عنه أنه كان يقول: إنْ ولاني الله لأفنين جميع بني أبي طالب، فبلغ ذلك ولد علي فكانوا يدعون عليه.
أخبار أبي نصر زيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم ابن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الأغلب.
كان المذكور قد ملك إفريقية، سنة تسعين ومائتين، في مستهل رمضان، بعد قتل أبيه، باتفاق من زيادة الله المذكور، فإن زيادة الله كان قد حبسه أبو عبد الله، على شرب الخمر، فاتفق مع ثلاثة من خدم أبيه الصقالية، على قتل أبيه، فقتلوه في شعبان سنة تسعين ومائتين، وأحضروا رأسه إلى زيادة الله في الحبس، فلما تولى زيادة الله، أمر بهم فقُتلوا، وهو الذي كان أمرهم بذلك، ولما تولى زيادة الله على إفريقية، انعكف على اللذات، وملازمة المضحكين وأهمل أمور المملكة، وقتل من الأغالبة كل من قدر عليه، من أعمامه وأخوته.
وفي أيام زيادة الله، قوي أمر أبي عبد الله الشبعي، القائم بدعوة الدولة العلوية الفاطمية بالمغرب، فأرسل إليه زيادة الله جميع عسكره، وكانوا أربعين ألفاً، مع إبراهيم من بني الأغلب، وهو من بني عمه، فهزمهم أبو عبد الله الشيعي، ولما رأى زيادة الله هزيمة عسكره وضعفه عن مقاومة أبي عبد الله الشيعي، جمع ما قدر عليه من الأموال، وسار عن ملكه إلى الشرق في هذه السنة، فقدم مصر وبها النوشري عاملا، فكتب بأمره إلى المقتدر، ثم سار زيادة الله إلى الرقة، فأمره المقتدر بالعود إلى المغرب، لقتال أبي عبد الله الشعبي، وكتب إلى النوشري عامل مصر، يإمداد زيادة الله بالعساكر والأموال، فقدم إلى مصر، فأمره النَّوشري بالخروج إلى الحمامات، ليخرج إليه ما يحتاجه من الرجال والأموال، فخرج، ومطله النوشري، وزيادة الله مع ذلك، يلازم شرب الخمر واستماع الملاهي، وطال مقامه هناك، فتفرق عنه أصحابه، وتتابعت به الأمراض، وسقط شعر لحيته، وأيس من النَّوشري، فسار إلى القدس للمقام به، فمات بالرملة ودفن بها، ولم يبق بالمغرب من بني الأغلب أحد، وكانت مدة ملكهم مائة سنة واثنتي عشرة سنة بالتقريب، لأنه قد تقدم أن الرشيد ولى إبراهيم بن الأغلب على إفريقية، في سنة أربع وثمانين ومائة، وانقضى ملكهم في هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين ومائتين، كان مدة ملك زيادة الله، إلى أن هرب من الشيعي في هذه السنة، خمس سنين وتسعة أشهر وأياماً، فسبحان الذي لا يزول ملكه.
ابتداء الدولة العلوية الفاطمية وفي هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين ومائتين، كان ابتداء ملك الخلفاء العلويين إفريقية، وانقرضت دولتهم بمصر، سنة سبع وستين وخمس مائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وأول من ولي منهم، أبو محمد عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وقيل: هو عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل الثاني بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد اختلف العلماء في صحة نسبه. فقال القائلون بإمامته: إن نسبه صحيح، ولم يرتابوا فيه، وذهب كثير من العلويين العالمين بالأنساب، إلى موافقتهم أيضاً، ويشهد بصحته ما قاله الشريف الرضي.
ما مُقامي على الهوان وعندي ** مقولٌ صارمٌ وأنفٌ حمي

ألبسَ الذل في بلاد الأعادي ** وبمصر الخليفة العلوي

مَنْ أبوه أبي ومولى مولا ** ي إذا ضامني البعيد القصي

لف عرقي بعرقه سيد النا ** س جميعاً محمد وعلي

وذهب آخرون إلى أن نسبهم مدخول، ليس بصحيح، وبالغ طائفة منهم إلى أن جعلوا نسبهم في اليهود، فقالوا: لم يكن اسم المهدي عبيد الله بل كان اسمه سعيد ابن أحمد بن عبد الله القداح بن ميمون بن ديصان، وقيل عبيد الله بن محمد، وقيل فيه سعيد بن الحسين، وأن الحسين المذكور قدم إلى سلمية، فجرى بحضرته حديث النساء، فوصفوا له امرأة رجل يهودي حداد بسلمية، مات عنها زوجها فتزوجها الحسين بن محمد المذكور لابن أحمد بن عبد الله القداح المذكور. وكان للمرأة ولد من اليهودي، فأحبه الحسين وأدبه، ومات الحسين ولم يكن له ولد فعهد إلى ابن اليهودي الحداد وهو المهدي عبيد الله وعرفه أسرار الدعوة وأعطاه الأموال والعلامات، فدعا له الدعاة، وقد اختلف كلام المؤرخين، وكثر في قصة عبد الله القداح بن ميمون بن ديصان المذكور، ونحن نشير إلى ذلك مختصراً. قالوا: ابن ديصان المذكور، هو صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة، وكان يظهر التشيع لآل النبي صلى الله عليه وسلم، ونشأ لميمون بن ديصان ولد يقال له عبد الله القداح، لأنه كان يعالج العيون ويقدحها، وتعلم من ميمون أبيه الحيل، وأطلعه أبوه على أسرار الدعاة لآل النبي صلى الله عليه سلم، ثم سار عبد الله القداح، من نواحي كرج وأصفهان، إلى الأهواز والبصرة وسلمية، من أرض حمص، يدعو الناس إلى آل البيت، ثم توفي عبد الله القداح وقام ابنه أحمد، وقيل محمد، مقامه، وصحبه إنسان يقال له رستم بن الحسين بن حوشب بن زادان النجار، من أهل الكوفة، فأرسله أحمد إلى الشيعة باليمن، وأن يدعو الناس إلى المهدي من آل محمد صلى الله عليه وسلم، فسار رستم بن حوشب إلى اليمن، ودعا الشيعة إلى المهدي، فأجابوه، وكان أبو عبد الله الشيعي من أهل صنعاء وقيل من أهل الكوفة، وسمع بقدوم ابن حوشب إلى اليمن، وأنه يدعو الناس إلى المهدي، فسار أبو عبد الله الشيعي من صنعاء إلى ابن حوشب، وكان بعَدن، فصحبه وصار من كبار أصحابه، وكان لأبي عبد الله الشيعي علم ودهاء، وكاَن قد أرسل ابن حوشب قبل ذلك، الدعاة إلى المغرب، وقد أجابه أهل كتامة، ولما رأى ابن حوشب، علْمَ أبي عبد الله الشيعي ودهاه، أرسله إلى المغرب، إلى أهل كتامة، وأرسل معه جَملة من المال، فسار أبو عبد الله الشيعي إلى مكة، وهو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا، ولما قدم الحجاج مكة، اجتمع بالمغاربة من أهل كتامة، فرآهم مجيبين إلى ما يختار، فسار معهم إلى أرض كتامة من المغرب، فقدمها منتصف ربيع الأول، سنة ثمانين ومائتين، وأتاه البربر من كل مكان، وعظم أمره، وكان اسمه عندهم: أبا عبد الله المشرقي. وبلغ أمره إلى إبراهيم بن أحمد الأغلبي أمير إفريقية إذ ذاك، فاستصغر أمر أبي عبد الله، واستحقره، ثم مضى أبو عبد الله إلى مدينة تاهرت، فعظم شأنه، وأتته القبائل من كل مكان، وبقي كذلك حتى تولى أبو نصر زيادة الله، آخر من ملك من بني الأغلب، وكان عم زيادة الله، ويعرف بالأحول، قبالة أبي عبد الله الشيعي، يقاتله، فلما تولى زيادة الله، أحضر عمه الأحول وقتله، فصفت البلاد لأبي عبد الله الشيعي.
اتصال المهدي عُبيد الله بأبي عبد اللّه الشيعي:
كانت الدعاة بالمغرب يدعون إلى محمد، والد المهدي، وكان بسلمية، فلما توفي أوصى إلى ابنه عبيد الله المهدي، وأطلعه على حال الدعاة وشاع ذلك أيام المكتفي، فطلب، فهرب عبيد الله، وابنه أبو القاسم محمد، الذي ولي بعد المهدي، وتلقب بالقاَئم، وتوجها نحو المغرب، ووصل عبيد الله المهدي إلى مصر في زي التجار، وكان عامل مصر حينئذ عيسى النّوشري، وقد كنت إليه الخليفة، بتطلب عبيد الله المهدي، والتوقع عليه، فَجَد المهدي في الهرب، وقدم طرابلس الغرب، وزيادة الله بن الأغلب متوقع عليه، وقد كتب إلى عماله بإمساكه متى ظفروا به، فهرب من طرابلس، ولحق بسجلماسة فأقام بها. وكان صاحب سجلماسة يسمى اليسع بن مدرار، فهاداه المهدي، على أنه رجل تاجر، قد قدم إلى تلك البلاد، فوصل كتاب زيادة الله إلى اليسع، يعلمه أن هذا الرجل، هو الذي يدعو له عبد الله الشيعي إليه، فقبض اليسع على عبيد الله المهدي، وحبسه بسجلماسة، ولما كان من قتل زيادة الله عمه الأحول، وهرب زيادة الله، واستيلاء أبي عبد الله الشيعي على إفريقية ما قدمنا ذكره، سار أبو عبد الله الشيعي من رقادة في رمضان من هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين ومائتين، إلى سجلماسة، واستخلف أبو عبد الله الشيعي أخاه أبا العباس، وأبا زاكي على إفريقية. فلما قرب من سجلماسة، خرج صاحبها اليسع وقاتله، فرأى ضعفه عنه، فهرب اليسع تحت الليل، ودخل أبو عبد الله الشيعي إلى سجلماسة، وأخرج المهدي وولده من السجن، وأركبهما ومشى هو ورؤوس القبائل بين أيديهما، وأبو عبد الله يشير إلى المهدي ويقول للناس: هذا مولاكم، وهو يبكي من شدة الفرح، حتى وصل إلى فسطاط، قد نصب له، ولما استقر المهدي فيه، أمر بطلب اليسع صاحب سجلماسة، فأدرك وأحضر بين يديه، فقتله، وأقام المهدي بسجلماسة أربعين يوماً، وسار إلى إفريقية، ووصل إلى رقادة، في ربيع الآخر، سنة سبع وتسعين ومائتين، فدون الدواوين، وجبى الأموال، وبعث العمال إلى سائر بلاد المغرب، واستعمل على جزيرة صقلية الحسن ابن أحمد بن أبي حفتزير، وزال بملك المهدي ملك بني الأغلب، وملك بني مدرار أصحاب مملكة سجلماسة، وكان آخر بني مدرار اليسع، وكان مدة ملك بني مدرار مائة سنة وثلاثين سنة، وزال ملك بني رستم من تاهرت، وكانت مدة ملكهم مائة سنة وستين سنة.
قتل أبي عبد اللّه الشيعي أخيه أبي العباس لما استقرت قدم المهدي في المملكة، باشر الأمور بنفسه، ولم يبق لأبي عبد الله، ولأخيه أبي العباس مع المهدي حكم، والفطام صعب، فشرع أبو العباس أخو أبي عبد الله الشيعي يندّم أخاه ويقول له: أخرجت الأمر عنك، وسلمته لغيرك. وأخوه ينهاه عن قول مثل ذلك، إلى أن أحنقه، وذلك يبلغ المهدي، حتى شرع يقول لرؤوس القبائل: ليس هذا المهدي الذي دعوناكم إليه. فطلبهما المهدي وقتلهما، كذا أورد ابن الأثير في الكامل، مقتل أبي عبد الله الشيعي المذكور في سنة ست وتسعين ومائتين، ورأيت مقتل أبي عبد الله في الجمع والبيان في تاريخ القيروان أنه كان في نصف جمادى الأولى، سنة ثمان وتسعين ومائتين، وهو الأصح عندي. وكذلك ذكر في تاريخ مقتله ابن خلكان، أنّه كان في سنة ثمان وتسعين ومائتين.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين، وسنة ثمان وتسعين ومائتين:
فيها توفي أبو القاسم جنيد بن محمد الصوفي، وكان إمام وقته، وأخذ الفقه عن أبي ثور صاحب الشافعي، وأخذ التصوف عن سري السقطي.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين:
في هذه السنة قبض المقتدر على وزيره أبي الحسين بن الفرات، ونهب داره، وهتك حرمه، وولى الوزارة أبا علي محمد ابن يحيى بن عبيد الله ابن خاقان، وكان الخاقان المذكور ضجوراً، وتحكمت عليه أولاده، فكل منهم يسعى لمن يرتشي منه، فكان يولي العمل الواحد عدة من العمال في الأيام القليلة، حتى أنه ولى ماء الكوفة، في عشرين يوماً، سبعة من العمال، فقيل فيه:
وزير قد تكامل في الرقاعه ** يولي ثم يعزل بعد ساعه

إذا أهل الرشا اجتمعوا عليه ** فخير القوم أوفرهم بضاعه

والخليفة مع ذلك، يتصرف على مقتضى إشارة النساء والخدام، ويرجع إلى قولهم وآرائهم، فخرجت الممالك، وطمع العمال في الأطراف. وفي هذه السنة توفي أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان النحوي، وكان عالماْ بنحو البصريين والكوفيين. وفيها توفي إسحاق بن حنين الطبيب.
ثم دخلت سنة ثلاثمائة:
فيها عزل المقتدر الخاقاني عن الوزارة، وولاها علي بن عيسى.
وفاة عبد الله صاحب الأندلس:
في هذه السنة، توفي عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام ابن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، طريد رسول الله صلى الله عيه وسلم، في ربيع الأول، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وكان أبيض، أصهب، أزرق، ربعة، يخضب بالسراد، وكانت ولايته خمساً وعشرين سنة وكسراً، لأنه تولى في سنة خمس وسبعين ومائتين، ورزق إحدى عشر ولداً ذكراً، أحدهم محمد المقتول، قتله أبوه المذكور، في حد من الحدود، وهو والد عبد الرحمن الناصر. ولما توفي عبد الله، ولى ابن ابنه واسمه عبد الرحمن بن محمد المقتول بن عبد الله المذكور، وتولى عبد الرحمن بحضرة أعمامه، وأعمام أبيه، ولم يختلفوا عليه، وهذا عبد الرحمن، هو الذي يسمى الناصر فيما بعد.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثمائة:
مقتل أحمد الساماني:
في هذه السنة قتل الأمير أحمد بن إسماعيل الساماني، صاحب خراسان وما وراء النهر، ذبحه بالليل جماعة من غلمانه على سريره، وهربوا ليلة الخميس، لسبع بقين من جمادى الآخرة، وكان قد خرج إلى البر متصيداً، فحمل إلى بخارى ودفن بها، وظفروا ببعض أولئك الغلمان فقتلوهم، وولي الأمر بعده، ولده أبو الحسن نصر ابن أحمد، وهو ابن ثمان سنين.
قتل كبير القرامطة:
وفي هذه السنة قتل أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، كبير القرامطة، قتله خادم له صقلبي، في الحمام، ولما قتله، استدعى رجلا آخر من أكابر رؤسائهم، وقال له: إن الرئيس يستدعيك، فلما دخل قتله، وفعل كذلك بغيره، حتى قتل أربعة أنفس من كبرائهم، ثم علموا به فاجتمعوا عليه وقتلوه، وكان أبو سعيد الجنابي، قد جعل ولده سعيداً الأكبر ولي عهده، فتولى بعده، وعجز عن القيام بالأمر، فغلبه أخوه الأصغر، أبو طاهر سليمان، وكان شهماً شجاعاً، واستولى على الأمر، ولما قتل أبو سعيد، كان مسستولياً على هجر والأحساء والقطيف وسائر بلاد البحرين.
غير ذلك من الحوادث:
في هذه السنة، سير المهدي العلوي جيشاً مع ولده أبي القاسم محمد، إلى ديار مصر، فاستولى على الإسكندرية، والفيوم، فسيّر إليهم المقتدر، مع مؤنس الخادم جيشاً، فأجلاهم عن ديار مصر، وعادوا إلى المغرب، وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد المقري الثقفي. وفيها توفي محمد بن يحيى بن مندة الحافظ المشهور، صاحب تاريخ أصفهان، كان أحد الحفاظ الثقاة، وهو من أهل بيت كبير، خرج منه جماعة من العلماء.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثمائة:
في هذه السنة، قبض المقتدر على الحسين بن عبد الله، المعروف بابن الجصاص الجوهري، وأخذ منه من صنوف الأموال ما قيمته أربعة آلاف ألف دينار، وأكثر من ذلك، وفي هذه السنة أرسل المهدي العلوي، جيشاً مع مقدم يقال له جاشه في البحر، فاستولى على الإسكندرية، وأرسل المقتدر جيشاً مع مؤنس الخادم، فاقتتلوا بين مصر والإسكندرية أربع دفعات، انهزمت فيها المغاربة، وعادوا إلى بلادهم، وقتل من الفريقين خلق كثير. وفي هذه السنة انتهى تاريخ أبي جعفر الطبري. وفيها، وقيل في السنة التي قبلها، توفي علي بن أحمد بن منصور، الشاعر المعروف بالبسامي، وكان من أعيان الشعراء، كثير الهجاء، هجا أباه وأخوته وأهل بيته، وعمل في القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد.
قل لأبي القاسم المرزي ** قاتلك الدهر بالعجائب

مات لك ابن وكان زينا ** وعاش ذو الشين والمعايب

حياة هذا كموت هذا ** فلستَ تخلو منَ المصائب

وله في المتوكل لما هدم قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما، ومنع الناس من زيارته.
تالله إن كانت أمية قد أتت ** قتيل ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله ** هذا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا ** في قتله فتتبعوه رميما

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة:
بناء المهدية في هذه السنة، اختار المهدي موضع المهدية على ساحل البحر، وهو جزيرة متصلة بالبر، كهيئة كفّ متصلة بزند، فبناها وجعلها دار ملكه، وجعل لها سوراً محكماً، وأبواباً عظيمة، وزن كل مصراع مائة قنطار، وكان ابتداء بنائها يوم السبت في هذه السنة، لخمس خلون من ذي القعدة، ولما تم بناؤها قال المهدي: الآن أمنت على الفاطمية بحصانتها وفي هذه السنة أغارت الروم على الثغور الجزرية، فغنموا وسبوا. وفي هذه السنة توفي أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب النسائي صاحب كتاب السنن بمكة، ودفن بين الصفا والمروة، وكان إماماً حافظاً محدثاً، رحل إلى نيسابور، ثم إلى العراق، ثم إلى الشام ومصر، ثم عاد إلى دمشق، فامتحن في معاوية، وطُلب منه أن يروى شيئاً من فضائله، فامتنع وقال: ما يرضى معاوية أن يكون رأساً برأس، حتى يفضل. فقيل إنه وقع في حقه مكروه، وحمل إلى مكة فتوفي بها. وفيها توفي أبو علي محمد بن عبد الوهاب المعتزلي.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة:
فيها توفي الناصر العلوي صاحب طبرستان وعمره تسع وسبعون سنة، وكان يقال له الأطروش. واسمه الحسن بن علي بن الحسن بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وكان قد ملك طبرستان في سنة إحدى وثلاثمائة، واستولى على مملكتها، ثم قام بعد الناصر المذكور، الحسن بن القاسم العلوي، ويلقب بالداعي، وقتل في سنة ست عشرة وثلاثماثة، وانقرض بموته ملك العلويين من طبرستان. وفيها توفي يوسف ابن الحسين بن علي الرازي، صاحب ذي النون المصري وهو صاحب قصة الغار معه.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثمائة:
في هذه السنة مات أبو جعفر محمد بن عثمان العسكري، المعروف بالسمان، ويعرف أيضاً بالعمري، رئيس الإمامية. وكان يدعي أنه الباب إلى الإمام المنتظر. وفيها قدم رسول ملك الروم إلى بغداد، فلما استحضروا عبئ لهم العسكر وصفت الدار بالأسلحة، وأنواع الزينة، وكان جملة العسكر المصفوف حينئذ مائة ألف وستين ألفاً، ما بين راكب وواقف ووقف الغلمان الحجرية بالزينة والمناطق المحلاة، ووقف الخدام الخصيان كذلك كانوا سبعة آلاف، أربعة آلاف خادم أبيض وثلاثة آلاف أسود، ووقف الحجاب كذلك، وهم حينئذ سبع مائة حاجب، وألقيت المراكب والزوارق في دجلة بأعظم زينة، وزينت دار الخلافة، فكانت الستور المعلقة عليها ثمانية وثلاثين ألف ستر، منها ديباج مذهبة اثنا عشر ألفاً وخمس مائة، وكانت البسط اثنين وعشرين ألفاً، وكان هناك مائة سبع، مع مائة سباع، وكان في جملة الزينة، شجرة من ذهب وفضة، تشتمل على ثمانية عشر غصناً، وعلى الأغصان والقضبان الطيور والعصافير من الذهب والفضة، وكذلك أوراق الشجرة من الذهب والفضة، والأغصان تتمايل بحركات موضوعة، والطيور تصفر بحركات مرتبة، وشاهد الرسول من العظمة ما يطول شرحه، وأحضر بين يدي المقتدر، وصار الوزير يبلغ كلامه إلى الخليفة، ويرد الجواب عن الخليفة.
ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة:
في هذه السنة جعل على شرطة بغداد نجح الطولوني فجعل في الأرباع فقهاء، يكون عمل أصحاب الشرطة بفتواهم، فضعفت هيبة السلطنة بسبب ذلك، فطمع اللصوص والعيارون، وأخذت ثياب الناس في الطرق المنقطعة، وكثرت الفتن.
إرسال المهدي العلوي ابنه القائم بعساكر إفريقية إلى مصر وفي هذه السنة جهز المهدي جيشاً كثيفاً مع ابنه القائم إلى مصر فوصل إلى الإسكندرية، واستولى عليها، ثم سار حتى دخل الجيزة، وملك أشمونين، وكثيراً من الصعيد، وبعث المقتدر مؤنساٌ الخادم، فوصل إلى مصر، وجرى بينه وبين القائم عدة وقعات، ووصل إلى الإسكندرية من إفريقية ثمانون مركباً نجدة للقائم، وأرسل المقتدر مراكب من طرسوس، إلى قتال مراكب القائم، وكانت خمسة وعشرين مركباً، فالتقت المراكب المراكب على رشيد، واقتتلوا، واقتتلت العساكر في البر، وكانت الهزيمة على عسكر المهدي ومراكبه، فعادوا إلى إفريقية بعد أن قتل منهم وأُسر.
وفي هذه السنة توفي القاضي محمد بن خلف بن حيان الضبي المعروف بوكيع، وكان عالماً بأخبار الناس، وله تصانيف حسنة. وفيها في جمادى الأولى توفي الإمام أبو العباس أحمد بن سريج الفقيه الشافعي، وكان من عظماء الشافعية، وأئمة المسلمين، وكان يقال له الباز الأشهب، وولي القضاء بشيراز، وبلغت مصنفاته أربع مائة مصنف، ومنه انتشر مذهب الشافعي في الآفاق، وكان يقال في عصره، إن الله أظهر عمر بن عبد العزيز على رأس المائة من الهجرة، وأحيى كل سنة، وأمات كل بدعة، ثم منّ الله على الناس بالشافعي على رأس المائتين. فأظهر السنة، وأخفى البدعة، ومن اللّه على رأس الثلاثمائة بابن سريج، فقوّى كل سنْة، وضعف كل بدعة، وكان جده سريج رجلا مشهوراً بالصلاح.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثمائة:
انقراض دولة الأدارسة العلويين:
من كتاب المغرب في أخبار أهل المغرب أن دولتهم انقرضت غي هذه السنة، أقول: كنا سقنا أخبارهم إلى محمد بن إدريس بن إدريس في سنة أربع عشرة ومائتين، وأن محمداً المذكور لما تولى، فرّق غالب بلاده على أخوته، حسبما قدمنا ذكره في السنة المذكورة، وأنه أعطى أخاه عمر صنهاجة وغمارة، وبقي محمد هو الإمام حتى توفي، ولم يقع لنا تاريخ وفاته، فلما مات محمد ملك بعده ابن أخيه علي بن عمر المذكور ابن إدريس بن إدريس، وكانت إمامة علي المذكور مضطربة، لم يتم له فيها أمر، فخلع عن قرب، وولي بعده ابن أخيه يحيى بن إدريس عمران إدريس ابن إدريس، وهذا يحيى هو آخر أمتهم بفاس، وانقرضت دولتهم في هذه السنة، أعني سنة سبع وثلاثمائة، وتغلب عليهم فضالة بن جبوس، ثم ظهر من الأدارسة حسن بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس، ورام رد الدولة، وقد أخذت في الاختلال، ودولة المهدي عبيد الله في الإقبال، فملك عامين، ولم يتم له مطلب، وانقرضت دولتهم من جميع المغرب الأقصى، وحمل غالب الأدارسة إلى المهدي المذكور، وولده، الأمن اختفى منهم في الجبال إلى أن ثار بعد الأربعين والثلاثمائة إدريس من ولد محمد بن القاسم بن إدريس، فأعاد الإمامة لهذا البيت، ثم تغلب على بر العدوة، عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر، وخطب في تلك البلاد لبني أمية، ثم رجع عبد الملك إلى الأندلس، فاضطربت ببر العدوة دولته، فتغلب على قاس بنو أبي العافية، الزناتيون، حتى ظهر يوسف بن تاشفين، أمير المسلمين، واستولى على تلك البلاد.
ثم دخلت سنة ثمان وسنة تسع وثلاثمائة:
مقتل الحُسين بن منصور الحلاج:
كان الحسين بن منصور الحلاج الصوفي، يظهر الزهد والتصوف، ويظهر الكرامات، ويخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمد يده إلى الهواء، ويعيدها مملوءة دراهم، عليها مكتوب قل هو الله أحد، ويسميها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما أكلوه، وما صنعوه في بيوتهم، ويتكلم بما في ضمائرهم، فافتتن به خلق كثير، واعتقدوا فيه الحلول، واختلف الناس فيه، كاختلافهم في المسيح، فمن قائل إنه قد حلّ فيه جزء إلهي، ومن قائل إنه ولي، وما يظهر منه كراماته، ومن قائل إنه مشعبذ ومتكهن وساحر كذاب. وقدم من خراسان إلى العراق، وسار إلى مكة، وأقام بها سنة في الحجر، لا يستظل تحت سقف، وكان يصوم الدهر، وكان يفطر على ماء، ويأكل ثلاث عضات من قرص حَسْب، ولا يتناول شيئاً آخر، ثم عاد الحسين إلى بغداد، فالتمس حامد الوزير، من المقتدر، أن يسلم إليه الحلاج، فأمر بتسليمه إليه، وكان حامد يخرج الحلاج إلى مجلسه، ويستنطقه، فلا يظهر منه ما تكرهه الشريعة، وحامد الوزير مجد في أمره ليقتله، وجرى له معه ما يطول شرحه، وفي الآخر إن الوزير رأى له كتاباً، حكى فيه أن الإنسان إذا أراد الحج، ولم يمكنه، فرد من داره بيتاً نظيفَاً من النجاسات، ولا يدخله أحد، وإذا حضرت أيام الحج، طاف حوله، وفعل ما يفعله الحجاج بمكة، ثم يجمع ثلاثين يتيماً، ويعمل أجود طعام يمكنه، ويطعمهم في ذلك البيت، ويكسوهم، ويعطي كل واحد منهم سبعة دراهم، فإذا فعل ذلك كان كمن حج، فأمر الوزير بقراءة ذلك قدام القاضي أبي عمرو، فقال القاضي للحلاج: من أين لك هذا؟ فقال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري فقال له القاضي: كذبت. يا حلال الدم، قد سمعناه بمكة، وليس فيه هذا، فطالب الوزير القاضي أبا عمرو أن يكتب خطه بما قاله، أنه حلاّل الدم، فدافعه القاضي، ثم ألزمه الوزير، فكتب بإباحة دم الحلاج، وكتب بعده من حضر المجلس، فلما سمع الحلاج ذلك قال: ما يحل لكم دمي وديني الإسلام، ومذهبي السنة، ولي فيها كتب موجودة، فالله الله في دمي، وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه في قتله، وأرسل الفتاوي بذلك، فأذن المقتدر في قتله، فضرب ألف سوط، ثم قطعت يده، ثم رجله، ثم قتل وأحرق بالنار، ونصب رأسه ببغداد.
وفي هذه السنة توفي أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطا الصوفي، من كبار مشايخهم وعلمائهم، وإبراهيم بن هارون الحراني الطبيب.
ثم دخلت سنة عشر وثلاثمائة:
في هذه السنة توفي أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ببغداد، ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين بأم طبرستان، وكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصبراً بالمعاني، وكان من المجتهدين، لم يقلد أحداً، وكان فقيهاً عالماً عارفاً بأقاويل الصحابة والتابعين، ومن بعدهم. وله التاريخ المشهور، ابتدأ فيه من أول الزمان، إلى آخر سنة اثنتين وثلاثمائة، وكتاب في التفسير لم يفسر مثله، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، ولما مات تعصبت عليه العامة، ورموه بالرفض، وما كان سببه إلا أنه صنف كتاباً فيه اختلاف الفقهاء، ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فقيل له في ذلك فقال: لم يكن أحمد بن حنبل فقيهاً، وإنما كان محدثاً، فاشتد ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد، فشنعوا عليه بما أرادوه.
وفيها توفي في ذي الحجة أبو بكر محمد بن السري بن سهل النحوي، المعروف بابن السراج، كان أحد الأئمة المشاهير، أخذ العلم عن أبي العباس المبرد، وأخذ عنه النحو جماعة، منهم أبو سعيد السيرافي، وعلي بن عيسى الرماني، وغيرهما، ونقل عنه الجوهري في الصحاح، في مواضع عديدة، وله عدة مصنفات مشهورة. وكان مع كمال فضائله يلثغ في الراء، يجعلها غيناً، فأملى كلاماً يوماً بالراء، فكتبوه بالغين، فقال: لا بالغين بل بالغاء، وجعل يكررها على هذه الصورة، والسراج نسبة إلى عمل السروج، وقيل كانت وفاته في سنة خمس عشرة وثلاثمائة.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة:
وفي هذه السنة كبست القرامطة، وكبيرهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجاني، البصرة ليلاْ، وعلوا على أسوارها، وقتلوا عاملها، وأقاموا بها سبعة عشر يوماً، يقتلون ويحملون منها الأموال. وفي هذه السنة توفي أبو محمد أحمد بن محمد بن محمد بن الحسين الجُريري، بضم الجيم، وهو من مشاهير مشايخ الصوفية، وإبراهيم بن السري الزجاج النحوي، صاحب كتاب معاني القرآن.
وفيها توفي محمد بن زكريا الرازي الطبيب المشهور، وكان في شبيبته يضرب بالعود، فلما التحى قال: كل غناء يخرج من بين شارب ولحية لا يستحسن، فتركه وأقبل على دراسة كتب الطب والفلسفة، وقد جاوز الأربعين سنة، وطال عمره، وبلغ في معرفة العلوم التي اشتغل فيها الغاية، وصار إمام وقته في علم الطب، والمشار إليه، وصنف في الطب كتباً نافعة، فمنها الحاوي في مقدار ثلاثين مجلداً، وكتاب المنصوري وهو كتاب مختصر نافع، صنفه لبعض الملوك السامانية، ملوك ما وراء النهر.
ثم دخلت سنة اثني عشرة وثلاثمائة:
في هذه السنة أخذ أبو طاهر القرمطي، الحجاج، وأخذ منهم أموالا عظيمة، وهلك أكثرهم بالجوع والعطش.
وفي هذه السنة قبض المقتدر على وزيره أبي الحسن بن الفرات، ثم سعوا في قتله، فأمر بقتله فذبح هو وولده المحسن، وكان عمر ابن الفرات إحدى وسبعين سنة، وكان عمر ولده المحسن ثلاثاً وثلاثين سنة، واستوزر المقتدر بعده أبا القاسم الخاقاني.
غير ذلك وفيها سار أبو طاهر القرمطي إلى الكوفة، ودخلها بالسيف، وقتل فيها، وحمل منها شيئاً كثيراً، وأقام ستة أيام يدخل الكوفة نهاراً، ويخرج منها إلى عسكره، ليلاً، وحمل منها ما قدر على حمله من الأموال والثياب.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة:
في هذه السنة توفي عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، وكان عمره مائة سنة وسنتين، وفيها توفي علي بن محمد بن بشار الزاهد.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة:
في هذه السنة قلد المقتدر، يوسف ابن أبي الساج نواحي المشرق، وأمره بالمسير إلى واسط، لمحاربة القرامطة، وكان يوسف المذكور بأذربيجان، فسار إلى واسط لمحاربة القرامطة. وفي هذه السنة استولى نصر بن أحمد الساماني على الري، ومرض بها ثم سار عنها.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة:
أخبار القرامطة ومقتل ابن أبي السّاج:
في هذه السنة وصلت القرامطة إلى الكوفة، فسار إليهم يوسف بن أبي الساج من واسط، بعسكر ضخم، تقدير أربعين ألفاً، وكانت القرامطة ألفاً وخمس مائة رجل، منهم سبع مائة فارس، وثمان مائة راجل، فلما رآهم أبو الساج احتقرهم، وقال: صدروا الكتب إلى الخليفة بالفتح، فهؤلاء في يدي، واقتتلوا، فحملت القرامطة، فانهزم عسكر الخليفة، وأخذ يوسف بن أبي الساج مقدم العسكر أسيراً، ثم قتله أبو طاهر القرمطي، واستولى على الكوفة، وأخذ منها شيئاً كثيراً ثم جهز المقتدر إلى القرامطة مؤنساً الخادم في عساكر كثيرة، فانهزم أكثر العسكر منهم قبل الملتقى، ثم التقوا، فانهزمت عساكر الخليفة، ووقع الجفل في بغداد خوفاً من القرامطة، ونهب القرامطة غالب البلاد الفراتية، ثم عادوا إلى هجر بالغنائم.
غير ذلك من الحوادث:
في هذه السنة، ظفر عبد الرحمن الناصر بن محمد الأموي صاحب الأندلس، بأهل طليطلة، بعد حصارها مدة، لخلافهم عليه، وأخرب كثيراً من عمارتها.
ثم دخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة:
في هذه السنة دخلت القرامطة إلى الرحبة، فنهبوا وسبوا ثم ساروا إلى الرقة، فنهبوا ربضها، ثم ساروا إلى سنجار فنازلوها، وطلب أهلها الأمان فأمنوهم، ثم نهبوا الجبال وغيرها من البلاد، وعادوا إلى هجر. وفي هذه السنة عزل المقتدر علي بن عيسى الوزير، وقبض عليه، وولى الوزارة أبا علي بن مقلة.
ابتداء أمر مرداويج وكان قد استولى على جرجان، أسفار بن شيرويه، سنة خمس عشرة وثلاثمائة وكان في أصحاب أسفار، قائد من أكبر قواده، يقال له مرداويج بن زيار، من الديلم. فخرج مرداويج على أسفار، بعد أن بايع غالب العسكر في الباطن، فهرب أسفار، فطلبه مرداويج فأدركه وقتله، وابتدأ مرداويج في ملك البلاد من هذه السنة، فملك قزوين، ثم ملك الري، وهمدان، وكنكور، والدينور، وبروجرد، وقم، وقاشان، وأصفهان، وجرباذقان، وعمل له سريراً من ذهب، يجلس عليه، ويقف عسكره صفوفاً بالبعد عنه، ولا يخاطبه أحد إلا الحجاب، الذين قد رتبهم لذلك، ثم استولى مرداويج على طبرستان.
غير ذلك:
في هذه السنة، وصل الدمستق في جيش كبير من الروم، وحصر أخلاط، فطلبوا الصلح، فأجابهم على أن يقلع منبر الجامع، ويعمل موضعه صليباً، فأجابوا إلى ذلك، وأخرجوا المنبر وجعلوا مكانه الصليب، ورحل إلى بدليس، ففعل بهم كذلك، والدمستق اسم للنائب على البلاد التي في شرقي خليج قسطنطينية. وفيها مات يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الإسفراييني، وله مسند مخرج على صحيح مسلم.
وكنيته أبو عوانة الحافظ، طاف البلاد في طلب الحديث، سمع مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح، وغيره من أئمة الحديث.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة:
خلع المقتدر:
في هذه السنة خلع المقتدر بالله من الخلافة، بسبب ما أنكره الجند والقواد عليه، من استيلاء النساء والخدام على الأمور، وكثرة ما أخذوا من الأموال والضياع، وانضم إلى ذلك وحشة مؤنس الخادم. من المقتدر، فاجتمعت العساكر إلى مؤنس، وقصدوا دار الخلافة، وأخرجوا المقتدر، ووالدته، وخالته، وخواص جواريه، وأولاده، من دار الخلافة، وحملوا إلى دار مؤنس واعتقلوا بها، وأحضروا أخاه محمد بن المعتضد وبايعوه ولقبوه القاهر بالله، بعد أن ألزموا المقتدر بأن يشهد عليه بالخلع، فأشهد عليه القاضي أبا عمرو، بأنه خلع نفسه، ونهبت دار الخلافة، واستخرجوا من قبر في تربة بنتها أم المقتدر، ستمائة ألف دينار.
عودة المقتدر إلى الخلافة:
فلما كان يوم الاثنين، سابع عشر المحرم، ثالث يوم خلع المقتدر، بكر الناس إلى دار الخلافة، حتى امتلأت الرحاب، لأنه يوم موكب، ولم يحضر مؤنس المظفر ذلك اليوم، وحضرت الرجال المصافية بالسلاح، يطالبون بحق البيعة، وارتفعت زعقاتهم، فخرج من عند القاهر ياروك، ليطيب خواطرهم، فرأى في أيديهم السيوف المسلولة، فخافهم فرجع، وتبعوه فقتلوه في دار الخلافة، وصرخوا: يا مقتدر يا منصور، وهجموا على القاهر، فهرب واختفى، وتفرق عنه الناس، ولم يبق بدار الخلافة أحد، ثم قصد الرجالة دار مؤنس الخادم، وطلبوا المقتدر منه، فأخرجه وسلمه إليهم، فحمله الرجالة على رقابهم حتى أدخلوه إلى دار الخلافة، ثم أرسل المقتدر خلف أخيه القاهر بالأمان وأحضره، وقال: قد علمت أنه لا ذنب لك، وقيل بين عينه وأمنه، فشكر إحسانه. ثم حبس القاهر عند والدة المقتدر، فأحسنت إليه ووسعت عليه، واستقر المقتدر في الخلافة، وسكنت الفتنة، وكان أشار مؤنس إعادة المقتدر إلى الخلافة، وإنما خلعه موافقة للعسكر.
ما فعله القرامطة بمكة وأخذهم الحجر الأسود وفي هذه السنة، وافى أبو طاهر القرمطي مكة، يوم التروية، وكان الحجاج قد وصلوا إلى مكة سالمين، فنهب أبو طاهر أموال الحجاج وقتلهم، حتى في المسجد الحرام وداخل الكعبة، وقلع الحجر الأسود من الركن، ونقله إلى هجر، وقتل أمير مكة ابن محلب وأصحابه، وقلع باب البيت، وأصعد رجلاً ليقلع الميزاب فسقط فمات، وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن الباقين في المسجد الحرام، حيث قتلوا، وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه.
غير ذلك من الحوادث:
وفي هذه السنة وقع بسبب تفسير قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودًا} [الإسراء: 70] ببغداد فتنة عظيمة بين الحنابلة وغيرهم، ودخل فيها الجند والعامة، واقتتلوا، فقتل بينهم قتلى كثيرة، فقال أبو بكر المروزي الحنبلي وأصحابه: إن معنى ذلك أن الله تعالى يقعد النبي صلى الله عليه وسلم معه على العرش، وقالت الطائفة الأخرى: إنما هي الشفاعة، فاقتتلوا بسبب ذلك.
وفي هذه السنة توفي محمد بن جابر بن سنان الحراني الأصل، البتاني الحاسب، المنجم المشهور، صاحب الزيج الصابي، واسمه يدل على إسلامه، وكذلك خطبته في زيجة، قال ابن خلكان: ولم أعلم أنه أسلم، وله الأرصاد المتقنة، وابتدأ بالرصد قي سنة أربع وستين ومائتين، إلى سنة ست وثلاثمائة وأثبت الكواكب الثابتة في زيجة لسنة تسع وتسعين ومائتين، وزيجة نسختان: أولى وثانية، والثانية أجود، والبتاني بفتح الباء الموحدة من تحتها، وقيل بكسرها نسبة إلى بتان، وهي ناحية من أعمال حران. وفيها توفي نصر بن أحمد بن نصر البصري، المعروف بالخبزأرزي، الشاعر المشهور، كان أديباً راوية للشعر، وكان أمياً لا يعرف أن يتهجا، ولا يكتب، وكان يخبز خبز الأرز، بمربد البصرة، وله الأشعار الفائقة منها:
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ** بأحسن منْ مولى تمشى إلى عبد

أتى زائري من غير وعد وقال لي ** أجلك عن تعليق قلبك بالوعد

فما زال نجم الوصل بيني بينه ** يدور بأفلاك السعادة والسعد

فطوراً على تقبيل نرجس ناظر ** وطوراً على تقبيل تفاحة الخد

ثم دخلت سنة ثماني عشرة وثلاثمائة:
في هذه السنة أخرجت الرجالة المصافية من بغداد، فإنهم استطالوا بالكلام والفعل، من حين أعادوا المقتدر إلى الخلافة، فجرى بينهم وبين الجند وقعة، وقتل بينهم قتلى، فهربت الرجالة المصافية إلى واسط، واستولوا عليها، فسار إليهم مؤنس الخادم، وقتل منهم وشردهم. وفيها وقيل بل في السنة التي قبلها، توفي أبو بكر الحسن بن علي بن أحمد بن بشار، المعروف بابن العلاف، الضرير النهرواني، وقد بلغ عمره مائة سنة، وهو ناظم مراثي الهر المشهورة التي منها:
يا هر فارقتنا ولم تعد ** وكنت منا بمنزل الولد

وكان قلبي عليك مرتعداً ** وأنت تنساب غير مُرتعد

تدخل برجٍ الحمام متئدا ** وتبلع الفرخ غير متئد

صادوك غيظاً عليك وانتقموا ** منك، وزادوا ومن يصد يُصد

ولم تزل للحمام مرتصدا ** حتى سقيت الحمام بالرصد

يا من لذيذُ الفراخ أوقعه ** ريحك هلا قنعت بالغددَ

لا بارك الله في الطعام إذا ** كان هلاك النفوس في المعدَ

كم دخلت لقمة حشا شره ** فأخرجت روحه من الجسدَ

ما كان أغناك عن تسلقك ال ** برج ولو كان جنة الخلد

وهي قصيدة طويلة مشهورة، واختلف في سبب عملها، فقيل: كان له قط حقيقة وقتله الجيران فرثاه، وقيل بل رثى بها ابن المعتز، ولم يقدر يذكره خوفاً من المقتدر، فورّى بالقط، وقيل: بل هويت جارية علي بن عيسى، غلاماً لأبي بكر بن العلاف المذكور، ففطن بهما علي بن عيسى فقتلهما جميعاً، فقال أبو بكر مولاه هذه القصيدة يرثيه، وكنى عنه بالهر.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة:
في هذه السنة، أرسل المقتدر عسكراً لقتال مرداويج، فالتقوا بنواحي همدان، فانهزم عسكر الخليفة، واستولى مرداويج على بلاد الجبل جميعاً، وبلغت عساكره في النهب إلى نواحي حلوان، ثم أرسل مرداويج عسكراً إلى أصفهان، فملكوها. وفي هذه السنة في ذي الحجة تأكدت الوحشة بين مؤنس الخادم وبين المقتدر.
ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة:
في هذه السنة سار مؤنس الخادم إلى الموصل مغاضباً للمقتدر، واستولى المقتدر على أقطاع مؤنس وماله وأملاكه وأملاك أصحابه، وكتب إلى بني حمدان أمراء الموصل، بصد مؤنس عن الموصل وقتاله، فجرى بين مؤنس وبينهم قتال، فانتصر مؤنس واستولى على الموصل، واجتمعت عليه العساكر من كل جهة، وأقام مؤنس بالموصل تسعة أشهر.
قتل المقتدر:
ولما اجتمعت العساكر بالموصل عند مؤنس الخادم، سار بهم إلى جهة بغداد، فقدم تكريت، ثم سار حتى نزل بباب الشماسية، فلما رأى المقتدر ضعفه، وانعزال العسكر عنه، قصد الانحدار إلى واسط ثم اتفق من بقي عنده على قتال مؤنس، ومنعوه من التوجه إلى واسط، فخرج المقَتدر إلى قتال مؤنس وهو كاره ذلك، وبين يدي المقتدر الفقهاء والقراء، ومعهم المصاحف منشورة، وعليه البردة، فوقف على تل، ثم ألح عليه أصحابه بالتقدم إلى القتال فتقدم، ثم انهزمت أصحابه، ولحق المقتدر قوم من المغاربة فقال لهم: ويحكم أنا الخليفة. فقالوا: قد عرفناك يا سفلة، أنت خليفة إبليس، فضربه واحد بسيفه فسقط إلى الأرض وذبحوه، وكان المقتدر ثقيل البدن، عظيم الجثة، فلما قتلوه رفعوا رأسه على خشبة، وهم يكبرون ويلعنونه، وأخذوا ما عليه حتى سراويله، ثم حُفر له في موضعه، وعفي قبره، وحمل رأس المقتدر إلى مؤنس، وهو بالراشدية، لم يشهد الحرب، فلما رأى رأس المقتدر، لطم وبكى، وكان المقتدر قد أهمل أحوال الخلافة، وحكم فيها النساء والخدم، وفرط في الأموال، وكانت مدة خلافته أربعاً وعشرين سنة، وأحد عشر شهراً، وستة عشر يوما، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة.